على مدار السنوات الأخيرة، تحوّلت شركة هواوي الصينية من مجرد مزوّد لمعدات الاتصالات إلى شريك تقني حاضر بقوة في المشهد الرقمي المصري. حضورها يمتد من أبراج شبكات المحمول إلى الفصول الدراسية في الجامعات، ومن مراكز البيانات الحكومية إلى ورش تدريب الطلاب. وبينما يبدو هذا التوسع ظاهريًا دليلاً على تعاون استثماري مفيد، إلا أنه يطرح تساؤلات مشروعة حول مدى جدية التوطين التكنولوجي في مصر، وهل نحن نؤسس لشراكة متكافئة، أم نكرّس تبعية رقمية مغلفة بشعارات التنمية؟
من العاصمة الإدارية الجديدة إلى صعيد مصر، أصبحت بصمة هواوي واضحة في معظم مشروعات البنية التحتية للاتصالات والتحول الرقمي. تقدم الشركة خدمات الجيل الرابع والخامس، وتدير حلولًا ذكية للمدن والقطاعات الحكومية، كما تسعى لدخول مجالات التصنيع والتعليم، متسلّحة بشراكات مع أبرز الجهات الرسمية. إلا أن هذا الحضور المكثف لمزوّد واحد يثير قلق بعض المختصين في قطاع الاتصالات، خاصة في ظل الظروف الجيوسياسية التي تحيط بالتكنولوجيا الصينية، والتساؤلات المستمرة حول الأمان السيبراني.
تتباهى هواوي بإطلاقها أكاديميات لتدريب طلاب الجامعات المصرية، ضمن برامج مثل “بذور من أجل المستقبل” و”المسابقة القومية للاتصالات”. وقد تجاوز عدد المتدربين المصريين في برامجها الـ15 ألف شاب وشابة. لكن السؤال الحقيقي ليس في الأرقام، بل في المخرجات: كم من هؤلاء وجد فرصة عمل في السوق؟ وكم منهم يساهم اليوم في تطوير حلول تكنولوجية مصرية مستقلة؟ إن اقتصار دور الشركة على التدريب النظري مع غياب بيئة تمكينية حقيقية للابتكار المحلي، يجعل من هذه المبادرات أقرب إلى تسويق ناعم يحمل طابعًا ترويجيًا أكثر من كونه تنمويًا.
في ملف الصناعة المحلية، يروَّج لأنشطة هواوي في تجميع الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية داخل مصر بالتعاون مع مصانع وطنية. غير أن الفرق كبير بين “التجميع” و”التصنيع”. لا يمكن اعتبار نقل خط إنتاج لتجميع مكونات مستوردة توطينًا حقيقيًا للصناعة ما لم يصاحبه نقل فعلي للمعرفة التقنية، وإتاحة فرص حقيقية للمطورين المصريين في سلسلة الإمداد.
أما على صعيد الأمن السيبراني، فإن اعتماد الحكومة المصرية على هواوي في مشاريع مراكز البيانات وأنظمة الحوسبة السحابية يمثل سيفًا ذا حدين. فعلى الرغم من التطمينات المستمرة بشأن احترام الخصوصية وعدم التدخل في البيانات، إلا أن غياب الشفافية حول تفاصيل العقود والبروتوكولات التقنية يزيد من الشكوك، ويدعو إلى المطالبة بمزيد من الرقابة الفنية المستقلة، وتفضيل الحلول مفتوحة المصدر متى أمكن ذلك، لضمان السيادة الرقمية.
وفي ضوء كل ما سبق، تبدو الحاجة ملحة لوضع استراتيجية وطنية واضحة للعلاقة مع الشركات العالمية في مجال التكنولوجيا، تقوم على أربعة مبادئ: أولًا، نقل حقيقي للتكنولوجيا يتجاوز التدريب النظري؛ ثانيًا، تعزيز البحث والتطوير داخل المؤسسات المصرية؛ ثالثًا، دعم فعلي للشركات الناشئة لبناء حلول محلية؛ رابعًا، الشفافية الكاملة في التعاقدات والمشاريع التقنية الكبرى.
لا خلاف على أن مصر تحتاج إلى شراكات تكنولوجية قوية، وأن هواوي تملك قدرات متميزة، ولكن الشراكة الفعالة لا تقوم على الاعتماد الأحادي، بل على بناء منظومة رقمية وطنية تُنتج وتبتكر وتُصدر، لا تكتفي بالاستهلاك والتجميع.
حتى يتحقق ذلك، ستظل علاقتنا مع هواوي، كما مع غيرها من الكيانات التقنية الكبرى، معلقة بين الأمل في التنمية الرقمية، والقلق من إعادة إنتاج التبعية بأدوات عصرية.
مؤسس ورئيس تحرير
موقع التقرير الاقتصادي