كتب: التقرير
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا في مختلف المجالات بفضل التقدم الهائل في تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI) وتبني التقنيات الحديثة في معظم الأعمال. لم يكن مجال العلاقات العامة (PR) بمنأى عن هذه التحولات، حيث تطورت أساليب العمل ووسائل التواصل، وأصبح الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة قوية في تحليل الجمهور، وصياغة الرسائل، وقياس نتائج الحملات. ومع ذلك، تظل العلاقات العامة مجالًا إنسانيًا بامتياز، يتطلب حضورًا بشريًا لا غنى عنه في إدارة المواقف والتفاعلات المعقدة.
الذكاء الاصطناعي أداة داعمة لا بديل
العلاقات العامة ليست مجرد مجموعة من الأدوات التقنية أو البرامج التشغيلية، بل هي استراتيجية اتصال متكاملة وعلم يقوم على الفهم العميق للجمهور، وصياغة الرسائل بعناية، وتقييم نتائجها بدقة. إنها أيضًا فن يتطلب حسًا لغويًا وبصيرة لفهم ما وراء الكلمات ورؤية ما تعجز البيانات وحدها عن كشفه. هنا يبرز التوازن الحيوي: فالذكاء الاصطناعي يقدم الدعم التحليلي والتشغيلي، لكن الإنسان يظل المحرك الأساسي للعلاقات العامة، بامتلاكه الحس الإنساني والخبرة التي لا يمكن للآلات أن تحاكيها.
فهم السياقات الاجتماعية والثقافية
بينما يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحليل النصوص واستخراج المشاعر الظاهرة، فإنه غالبًا ما يعجز عن فهم الأسباب العميقة وراءها أو إدراك السياقات الاجتماعية والثقافية المحيطة بها. على سبيل المثال، قد يكشف الذكاء الاصطناعي أن منشورًا ما يحمل طابعًا غاضبًا، لكنه لا يدرك الخلفيات الدينية، الرموز الوطنية، أو التاريخ السياسي الذي يفسر هذا الغضب. في المقابل، يمتلك متخصصو العلاقات العامة القدرة على قراءة السياق الاجتماعي والثقافي وفهم ما بين السطور، مما يمنحهم ميزة حاسمة في توجيه الحملات وإدارة الرسائل بذكاء وفعالية.
إدارة الأزمات والصوت الإنساني
في أوقات الأزمات، يبحث الجمهور عن صوت يشعر به ويعبر عن مخاوفه بصدق. صحيح أن الذكاء الاصطناعي قادر على صياغة بيان سريع ودقيق، لكنه يفتقر إلى المشاعر والدفء الإنساني المطلوب في مثل هذه المواقف. العلاقات العامة لا تقوم فقط على الصياغة اللغوية، بل على القدرة على بث الطمأنينة والتضامن بلغة تختلف عن لغة الحملات الترويجية. تتطلب الأزمات، التي قد تتصاعد بسرعة من تغريدة عابرة، خبرة وحدسًا إنسانيًا لتحديد الأضرار، واقتراح الرسائل والردود المناسبة، واختيار التوقيت والمنصة الأمثل للتواصل.
أهمية التوقيت والنبرة
تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي اقتراح الأوقات المثلى للنشر بناءً على معدلات التفاعل، لكنها لا تستطيع إدراك البعد الأخلاقي أو الاجتماعي للتوقيت. قد يكون التوقيت غير مناسب بسبب حدث أو ظرف اجتماعي، أو قد تكون النبرة غير ملائمة للجمهور، مما قد يحول حملة ناجحة إلى أزمة. لذلك، يظل المتخصص في العلاقات العامة يسأل نفسه قبل النشر: هل هذا هو الوقت المناسب فعلًا؟ وهل الرسالة تعكس قيم المؤسسة وموقفها الأخلاقي؟
التفاعل الإنساني وبناء الثقة
العلاقة بين المؤسسة والجمهور تشبه علاقة الصداقة القائمة على الثقة والصدق والاستمرارية. على الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على الاستجابة السريعة للشكاوى أو إرسال الرسائل الآلية، فإنه يفتقر إلى العفوية والمشاعر التي تجعل الشخص يشعر بأنه مسموع ومقدر. بدون هذا البعد الإنساني، تصبح العلاقة سطحية وباردة، بينما يبقى التواصل البشري الأساس لبناء ولاء حقيقي لدى الجمهور.
تجارب إنسانية مؤثرة
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب إعلانًا أو يلخص مقالًا بدقة، لكنه لا يملك القدرة على نقل روح التجارب الإنسانية في القصص. فهو لا يعرف شعور قلق العميل، أو حماس الجمهور، أو ألم المجتمع في الأزمات. ولهذا يظل النص المكتوب بيد إنسان يعي التجربة، أصدق وأكثر تأثيرًا من أي محتوى تنتجه الخوارزميات.
الحدس المهني واستباق الاتجاهات
تحليل البيانات يساعد في رسم صورة دقيقة للواقع، لكنه لا يكشف دائمًا عن التغيرات الخفية في مزاج الجمهور. هنا يظهر دور الحدس المهني لدى متخصصي العلاقات العامة، المبني على الخبرة والممارسة اليومية، والذي يمكنهم من استشعار المخاطر والفرص قبل أن ترصدها الخوارزميات. الحدس لا يلغي دور البيانات، بل يكملها ويمنحها عمقًا أكبر.
السمعة المؤسسية لا تُبرمج
السمعة المؤسسية هي صورة ذهنية تراكمية تتشكل عبر سلوك الشركة ورسائلها وتفاعلاتها مع جمهورها. قد تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي في رصد التفاعل والاتجاهات، لكنها لا تستطيع إعادة بناء الثقة بعد الأزمات، ولا التعامل مع السمعة باعتبارها كيانًا حيًا يحتاج إلى رعاية إنسانية دقيقة ومستدامة.
التباين الثقافي والمسؤولية الأخلاقية
قد يُنظر إلى مزحة ما على أنها بريئة في ثقافة معينة، لكنها تُعد إساءة في ثقافة أخرى. هنا يبرز دور المتخصصين في ضبط الرسائل بما يتلاءم مع خصوصية كل جمهور. الذكاء الاصطناعي لا يمتلك مؤشرًا أخلاقيًا ولا يستطيع تمييز ما إذا كان المحتوى يروج لقيم مرفوضة أو يسيء إلى فئة معينة، بينما يتولى الإنسان مسؤولية تمثيل قيم المؤسسة بصدق، وحماية صورتها من الانزلاقات الأخلاقية.
محاكاة الأزمات
في إحدى الحملات الإقليمية لعلامة تجارية سعودية، أجرت W7Worldwide للاستشارات الإعلامية والاستراتيجية تمرينًا لمحاكاة أزمة باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي. وقد نتج عن هذه المحاكاة تحديد 12 سيناريو أزمة محتملة، تراوحت بين تأخيرات في التوريد وردود فعل سلبية على وسائل التواصل الاجتماعي. أسهمت هذه المحاكاة في تقليص زمن الاستجابة إلى النصف، ومكنت الفريق من إعداد نقاط نقاش استباقية للتعامل مع أي أزمة محتملة، مما عزز ثقة العميل بشكل كبير. تؤكد هذه التجربة أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن البصيرة البشرية، بل أداة داعمة تعززها وتزيد من فعاليتها.