على بُعد كيلومترات قليلة من أهرامات الجيزة، يقف مبنى زجاجي عملاق يعانق الأفق في صمت مهيب. تعكس واجهاته المائلة أشعة الشمس وكأنها تحاول إعادة تعريف العلاقة بين الماضي والحاضر. إنه المتحف المصري الكبير (Grand Egyptian Museum) — المشروع الذي تحوّل من فكرة في أروقة وزارة الثقافة إلى رمز وطني يطمح لأن يكون بوابة مصر الكبرى إلى العالم.
منذ لحظة وضع حجر الأساس عام 2002، لم يكن الطريق سهلاً. تغيّرت الحكومات، تعاقبت الأزمات الاقتصادية، توقفت الأعمال ثم استؤنفت، لكن الحلم لم يتبدد. واليوم، بعد أكثر من عقدين من التخطيط والبناء، تستعد مصر لافتتاح أكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في التاريخ البشري، في نوفمبر 2025، بتكلفة تجاوزت مليار دولار أمريكي، وبطموح يتجاوز حدود السياحة إلى الاستثمار الثقافي المستدام.
من فكرة إلى صرح عالمي
بدأت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير في مطلع التسعينيات، حين تزايدت المخاوف من تكدّس القطع الأثرية داخل المتحف المصري القديم بميدان التحرير. ففي عام 1992، شكّلت الحكومة المصرية لجنة لدراسة إمكانية إنشاء متحف جديد “يليق بعظمة الحضارة المصرية”، وفق ما ذكره تقرير رسمي صادر عن المجلس الأعلى للآثار.
وبحلول عام 2002، تم الإعلان عن المسابقة الدولية لتصميم المتحف، وفاز بها المكتب المعماري الأيرلندي Heneghan Peng Architects، بتصميم يجمع بين الحداثة والمعمار المصري القديم، مع واجهة مثلثية مستوحاة من زاوية هرم خوفو.
في عام 2005، بدأت أعمال البناء الفعلية بتمويل أولي من الحكومة المصرية وقرض تنموي من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) بلغت قيمته نحو 300 مليون دولار، ما جعل المشروع مثالًا مبكرًا على التعاون الثقافي الدولي في مصر الحديثة.
لكن الأحداث السياسية التي تلت عام 2011 تسببت في توقفات متكررة، وارتفعت التكلفة تدريجيًا إلى نحو مليار دولار أمريكي حتى عام 2024، وفق تقديرات رويترز والأهرام الإنجليزي.
يقول اللواء عاطف مفتاح، المشرف العام على المشروع، في تصريح لوكالة أسوشيتد برس (AP): هذا المتحف ليس مجرد مبنى جديد، بل مشروع وطني سيغير وجه السياحة في مصر لعقود قادمة. لقد واجهنا تحديات هندسية ومالية هائلة، لكننا التزمنا بأن نُقدّم للعالم متحفًا على مستوى القرن الحادي والعشرين.
اقتصاد المتاحف.. حين يصبح التراث استثمارًا
يُعدّ المتحف المصري الكبير نموذجًا لاقتصاديات الثقافة الحديثة، حيث يتحوّل التراث من مورد رمزي إلى أصل اقتصادي يدرّ العوائد المباشرة وغير المباشرة. فبحسب تصريحات وزارة السياحة المصرية، من المتوقع أن يجذب المتحف أكثر من 5 ملايين زائر سنويًا في المرحلة الأولى، مع عائدات تقديرية تصل إلى 250 مليون دولار سنويًا من التذاكر، والهدايا، والمطاعم، والفعاليات.
وتشير رويترز إلى أن الحكومة المصرية تراهن على المتحف كجزء من خطة أوسع لزيادة عدد السياح إلى 30 مليون زائر سنويًا بحلول عام 2030، مقارنة بـ 15.7 مليون زائر في عام 2024.
يقول الخبير الاقتصادي هاني توفيق في تصريح لـ الأهرام الاقتصادي: المتحف الكبير ليس مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل هو استثمار في الصورة الذهنية لمصر. كل دولار يُنفق فيه سيعود مضاعفًا عبر إنفاق السياح، وارتفاع معدلات الإقامة، وخلق فرص العمل في سلاسل القيمة المرتبطة بالسياحة.
ويضيف التقرير الصادر عن AP News أن الحكومة المصرية خصّصت حوافز استثمارية للمناطق المحيطة بالمتحف، منها مشروعات فنادق ومجمعات خدمية على امتداد محور الهرم، بقيمة استثمارية تتجاوز 2.5 مليار جنيه مصري حتى الآن.
حين يتحوّل التاريخ إلى اقتصاد
الأثر الثقافي والسياحي – المتحف بوابة مصر إلى العالم
لا يقتصر طموح المتحف المصري الكبير على استعراض الكنوز الفرعونية فحسب، بل يهدف إلى إعادة تعريف مفهوم المتحف ذاته في العالم العربي. فالتجربة التي يقدمها المتحف تمتد من العرض المتحفي التقليدي إلى مساحات تفاعلية رقمية، ومراكز تعليمية، وساحات مفتوحة تمزج بين العلم والفن والضوء.
يضم المتحف وفق تصريحات وزارة السياحة والآثار أكثر من 57 ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة في مكان واحد منذ اكتشافها عام 1922. وقد تم نقل هذه القطع ضمن واحدة من أكبر عمليات الترميم والنقل في التاريخ المصري الحديث، استغرقت أكثر من عشر سنوات، وأشرفت عليها فرق مصرية – يابانية مشتركة.
تقول الدكتورة منى طايع، أستاذة علم المتاحف بجامعة القاهرة، في تصريح لموقع Egypt Today: المتحف الكبير ليس مجرد مخزن للآثار، بل مختبر مفتوح لتجديد العلاقة بين المصريين وتراثهم. إنه مشروع وطني يُعيد الاعتبار للهوية المصرية في عصر العولمة.
ووفق تقارير Le Monde الفرنسية، تتوقع إدارة المتحف أن يشكّل الافتتاح الرسمي في نوفمبر 2025 “حدثًا ثقافيًا عالميًا”، حيث تمت دعوة أكثر من 40 وفدًا دوليًا لحضور الافتتاح، في إشارة رمزية إلى مكانة مصر الثقافية المتجددة.
الأرقام تتحدث – استثمار في المستقبل
من الناحية الاقتصادية، يشكّل المتحف الكبير نقطة انطلاق لمفهوم الاقتصاد الثقافي المتكامل في مصر. فالمتحف لا يعتمد فقط على إيرادات الزوار، بل على نموذج اقتصادي متشعب يشمل: عقود رعاية تجارية مع شركات عالمية، فعاليات ومعارض مؤقتة مدفوعة، بيع تذاكر إلكترونية وتطبيقات تفاعلية، تأجير مساحات الفعاليات وقاعات المؤتمرات، العلامة التجارية (Brand Licensing) لمجموعة “GEM Egypt”.
وفق بيانات رسمية تبلغ التكلفة الإجمالية للمشروع نحو مليار دولار، بتمويل مشترك من الحكومة المصرية والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)، التي موّلت المشروع عبر قرضين تنمويين بقيمة تقارب 793 مليون دولار، بفوائد ميسّرة تمتد حتى عام 2038.
وفي المقابل، تشير توقعات وزارة السياحة إلى أن العائد المباشر خلال أول خمس سنوات من التشغيل قد يصل إلى 1.5 مليار دولار، بينما قد تتضاعف الإيرادات غير المباشرة من الأنشطة الفندقية والتجارية والسياحة المحيطة إلى أكثر من 4 مليارات دولار في نفس الفترة.
يقول تقرير رويترز الأخير عن المشروع (أكتوبر 2025): تأمل مصر أن يسهم المتحف في تسريع تعافي قطاع السياحة الذي شهد انتعاشًا بعد الجائحة، ليعود إلى تحقيق أكثر من 15 مليار دولار سنويًا، وليتحول المتحف إلى القلب الثقافي لصناعة السياحة المصرية.
التحديات – بين الطموح والإدارة
لكن الطريق نحو النجاح لا يخلو من العقبات. فالمتحف الكبير يواجه ثلاث تحديات رئيسية:
-
الإدارة المستدامة:
الحفاظ على التشغيل اليومي لمتحف بهذا الحجم يتطلب نظام إدارة متكامل وتدريب كوادر فنية مستمرة. -
التوازن بين الأثر الثقافي والعائد التجاري:
يجب أن يظل المتحف مؤسسة ثقافية غير خاضعة كليًا لمنطق السوق، مع ضمان الاستدامة المالية. -
البنية التحتية السياحية المحيطة:
رغم التطوير الكبير في محور الهرم، إلا أن الوصول إلى المتحف من وسط القاهرة ما يزال تحديًا في ساعات الذروة.
يقول المهندس طارق العطار، أحد المشرفين على المرحلة الأخيرة من البناء: أنجزنا ما يمكن وصفه بأعقد مشروع إنشائي في إفريقيا. لكن النجاح الحقيقي لن يقاس فقط بالافتتاح، بل بقدرتنا على جعله حيًا ومتجددًا يومًا بعد يوم.”
أرقام وحقائق حول المتحف المصري الكبير
| المؤشر | الرقم / المعلومة | المصدر |
|---|---|---|
| المساحة الكلية | 490,000 متر مربع | SIS / ACCIONA |
| التكلفة الإجمالية | ≈ 1 مليار دولار أمريكي | Reuters / AP |
| تمويل الوكالة اليابانية JICA | 793 مليون دولار (قروض ميسرة) | JICA / Reuters |
| عدد القطع الأثرية | أكثر من 57,000 قطعة | وزارة السياحة والآثار |
| عدد زوار التشغيل التجريبي | 5,000 – 6,000 زائر يوميًا | الأهرام الإنجليزي |
| الزوار المتوقعون بعد الافتتاح | 15,000 – 20,000 زائر يوميًا | Egypt Today |
| الإيرادات السنوية المتوقعة | 250 مليون دولار تقريبًا | وزارة السياحة |
| العائد الاقتصادي غير المباشر | 4 مليارات دولار خلال 5 سنوات | AP News |
| عدد العاملين بالمتحف والمنطقة المحيطة | أكثر من 10,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة | وزارة التخطيط |
الدلالات والاستنتاجات
عند النظر إلى تجربة المتحف المصري الكبير من منظور استثماري – ثقافي، نجد أننا أمام نموذج جديد للتنمية الثقافية المستدامة في العالم العربي. فالمشروع لم يعد مجرد رمز للهوية أو مشروع سياحي، بل أصبح أداة اقتصادية ذات بعد حضاري طويل الأمد.
إن استثمار مليار دولار في متحف واحد قد يبدو رقمًا ضخمًا، لكن في السياق المصري، يمثل هذا المشروع “نقطة توازن” بين الماضي والمستقبل، بين الحفاظ على التراث وتعظيم العائد من الاقتصاد الثقافي.
ويبدو أن الرهان المصري لم يكن على الحجارة، بل على “القيمة الرمزية” التي يمكن أن تتحوّل إلى رأسمال حقيقي.
فإذا نجحت إدارة المتحف في تحقيق التوازن بين الجذب الجماهيري والاحتراف المؤسسي، فقد يصبح المتحف المصري الكبير نموذجًا عالميًا لما يمكن أن تفعله الدول حين تستثمر في تاريخها بذكاء.




