في تحول نوعي يعيد تشكيل اقتصاديات الاتصالات العالمية، كشف أحدث إصدار من “تقرير إريكسون للتنقل” (نوفمبر 2025) عن انتقال قطاع الاتصالات من مرحلة “إثبات المفهوم” إلى مرحلة “جني العوائد التجارية”، مدفوعاً بالنمو المتسارع لشبكات الجيل الخامس المستقلة (5G Standalone). التقرير لم يكتفِ برصد الحاضر، بل وضع أولى التوقعات الدقيقة لعصر الجيل السادس (6G) حتى عام 2031.
تحول استراتيجي من حزم البيانات إلى “الاتصال المتمايز”
أظهر التقرير أن عام 2025 يمثل نقطة تحول حاسمة، حيث لم يعد التركيز منصباً على بيع “أحجام ضخمة من البيانات”، بل على جودة الخدمة المخصصة.
نمو الشبكات المستقلة ارتفع عدد الشركات التي أطلقت شبكات جيل خامس مستقلة (بشكل كامل أو تجريبي) إلى أكثر من 90 شركة اتصالات، بزيادة 30 شركة عن العام الماضي.
تقسيم الشبكة (Network Slicing) رصد التقرير 118 حالة استخدام لتقسيم الشبكة عبر 56 مزود خدمة، تهدف لتوفير خدمات “اتصال متمايز” (Differentiated Connectivity).
التسويق التجاري نجحت 65 حالة من أصل 118 في تجاوز مرحلة التجريب إلى الطرح التجاري الفعلي، حيث تم إطلاق ثلث هذه العروض (21 عرضاً) في عام 2025 وحده.
وفي هذا السياق، أكد إريك إيكودن، الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في شركة إريكسون: نلاحظ حرص مزودي الخدمات حول العالم على تبني ونشر شبكة الجيل الخامس المستقلة لتوفير اتصال متمايز قائم على خدمات القيمة، وليس فقط على حزم البيانات الضخمة. إن شبكة الجيل الخامس المستقلة تُتيح بالفعل فرصاً تجارية حقيقية.
الجيل السادس (6G) يلوح في الأفق
لأول مرة، يمتد الأفق الزمني لتقرير إريكسون ليشمل التوقعات حتى عام 2031، كاشفاً عن ملامح الجيل القادم من الاتصالات:
-
رواد السوق: من المتوقع أن تقود الولايات المتحدة، الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، أولى عمليات الإطلاق التجاري لشبكات الجيل السادس.
-
أرقام المشتركين: يتوقع التقرير وصول عدد مشتركي 6G إلى 180 مليون مشترك بنهاية 2031.
-
الفجوة الأوروبية: قد تتأخر أوروبا نحو عام واحد في إطلاق 6G مقارنة بالأسواق الرائدة، متأثرة بتأخر نشر شبكات الجيل الخامس المستقلة حالياً.
من سباق السعة إلى اقتصاد القيمة..
وتكشف القراءة المتعمقة لتقرير إريكسون للتنقل عن تحول جذري في العقيدة التشغيلية لقطاع الاتصالات العالمي، حيث لم تعد المقارنة بين عامي 2024 و2025 مجرد رصد لنمو أعداد المشتركين، بل هي توثيق للانتقال من مرحلة بيع السعة والبيانات الخام إلى مرحلة بيع “القيمة والجودة”. فبينما كان التركيز في السابق منصباً على توسيع رقعة التغطية، أظهرت بيانات عام 2025 نضوجاً تجارياً ملموساً لتقنيات الجيل الخامس المستقلة، حيث انتقل القطاع من مرحلة التجارب وإثبات المفهوم التي ميزت السنوات الماضية إلى مرحلة الطرح التجاري الفعلي، وهو ما يتضح جلياً في القفزة الكبيرة لأعداد المشغلين الذين تبنوا هذا النموذج لتقديم خدمات اتصال متمايز تعتمد على “تقسيم الشبكة”، في تحول ينهي عصر “الخدمة الواحدة للجميع” ويؤسس لعصر الخدمات المخصصة للأفراد والمؤسسات.
وعند النظر إلى المشهد الجيوسياسي التقني، تبرز فجوة زمنية واستراتيجية مثيرة للاهتمام بين الكتل العالمية الكبرى في سباقها نحو الجيل السادس. ففي الوقت الذي تصطف فيه الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية، وإلى جانبهم دول مجلس التعاون الخليجي، في طليعة الدول المرشحة لقيادة الموجة الأولى من الإطلاق التجاري لهذه التقنية بحلول عام 2031، تبدو القارة الأوروبية متأخرة خطوة إلى الوراء، حيث تشير التوقعات إلى تأخرها بنحو عام كامل عن الركب العالمي. وهذا التباين ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة للتباطؤ النسبي الذي شهدته أوروبا في نشر البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس المستقلة مقارنة بنظيراتها، مما يؤكد العلاقة الطردية الحتمية بين الاستثمار الحالي في الجيل الخامس والريادة المستقبلية في الجيل السادس.
وعلى صعيد حركة البيانات، يرسم التقرير مشهداً يتغير فيه اللاعب الرئيسي المهيمن على الشبكات؛ فبينما تدير شبكات الجيل الخامس حالياً أقل من نصف حركة البيانات العالمية بقليل، فإن التوقعات تشير إلى انقلاب كامل في الموازين بحلول عام 2031، حيث ستهمش هذه الشبكات الأجيال السابقة لتستحوذ وحدها على الغالبية العظمى من حركة البيانات، مدفوعة ليس فقط بزيادة أعداد المشتركين، بل بتغير نوعي في طبيعة الاستهلاك الذي تغذيه الصين والهند بشكل ملحوظ. ويتزامن هذا النمو في الحركة مع تحول في نموذج أعمال “الوصول اللاسلكي الثابت”، الذي بدأ ينسلخ من عباءة الحلول البديلة المؤقتة ليصبح منافساً شرساً لخدمات الألياف الضوئية، مستعيراً منها نموذج التسعير القائم على السرعة بدلاً من الحجم، وهو التوجه الذي تبنته أكثر من نصف الشركات المزودة للخدمة، مما يعكس ثقة متزايدة في قدرة الشبكات اللاسلكية على تقديم استقرار وسرعات تضاهي الخطوط الأرضية.
وختاماً، فإن النظرة المستقبلية لعام 2031 لا ترسم فقط مشهداً لمليارات المشتركين الجدد، بل تؤسس لواقع تكون فيه شبكات الجيل الخامس المستقلة هي العمود الفقري الرقمي للعالم، مستحوذة على ثلثي اشتراكات النطاق العريض المتنقل، في حين يبدأ الجيل السادس خطواته الأولى بحذر ولكن بطموح كبير، مكرراً دورة التطور التقني ولكن بوتيرة أسرع وأكثر اعتماداً على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، مما يجعل الفترة القادمة حقبة “الاتصال الذكي” بامتياز وليست مجرد حقبة “اتصال سريع”.




